بطولات فريدة لنساء فلسطين على حواجز الاحتلال : قصة أم أشرف تختزل معاناة الشعب الفلسطيني و بصموده غزة - تقرير خاص لم تكن أم أشرف تعتقد أنها ستمر بهذه التجربة المريرة التي ستسجل في ذاكرتها إلى الأبد , لأنها كتبت بمداد معاناتها بطول يوم بأكمله . " لم أتصور أن تكون معاناتي بهذه الصورة , إنهم أناس متوحشون إلى أبعد حد " تصف جنود الاحتلال الصهيوني الذين أوقفوها على حاجز سردا لمدة تزيد عن ست ساعات في ظل البرد القارس . أم أشرف جاوزت الأربعين من عمرها بقليل ,و مع ذلك تتمتع بصحة جيدة غير أن الأمراض داهمتها في السنة الأخيرة فاستلبت منها حيويتها و نشاطها , " أصبت بمرض السكري و ارتفاع الضغط إضافة إلى آلام في المفاصل " تقول أم أشرف . في يوم المعاناة - كما تحب أن تسميه - ذكرت لزوجها أنها مضطرة للخروج صباحا للوصول إلى رام الله بغرض العلاج عند طبيب وصفه الجيران بأنه صاحب خبرة ممتازة في معالجة آلام المفاصل . زوجها حذرها من عواقب الطريق و نبهها إلى أن وراءها خمسة أولاد سيظلون طوال اليوم ينتظرون عودتها ، أخبرته أنه ما من بد من السفر إلى الطبيب فودعها و تمنى لها رحلة طيبة . "ركبت سيارة أجرة و قالت للسائق : إن وجهتي مدينة رام الله فطلب السائق أجرة مضاعفة , سألته عن السبب فقال " الطريق طويلة يا حجة , بدنا خمس ساعات لما نصل " سلمت بالأمر و نقدته الأجرة ، كانت أم أشرف تنظر حولها فلا ترى إلا سيارات تتسابق تريد أن تصل إلى المدينة تحمل أطفالاً و نساء و رجالاً من كبار السن . سمعت الكثير من جاراتها عن الأهوال التي يواجهها المواطنون في مسيرهم إلى رام الله . سمعت عن ابن جارتهم أحمد الذي أصيب بثلاثة عيارات نارية أطلقها عليه جنود الاحتلال بعد أن تقدم من حاجز سردا يريد العبور ، كما سمعت عن " عمران " وهو تاجر أقمشة تعرض للضرب على أيدي الجنود وكسرت ذراعه ,كما سمعت عن أحد الأقارب ، اعتقله جنود الاحتلال على الحاجز بعد أن جادلهم بأنه مضطر للوصول إلى رام الله للحصول على العلاج و أبرز لهم شهادات طبية ، طوال الطريق كانت أم اشرف تستعرض هذه الصور و لم يخطر ببالها أنها ستواجه أسوأ من ذلك !! . فجأة سمعت السائق و هو يقول " هيا انزلوا " استغربت و سألت لماذا ؟ فأجابها أحد الركاب " إنها تلة يجب أن تعبرها السيارة بدون الركاب مخافة أن تتعطل ". نزل الركاب و بدءوا في دفع السيارة حتى تمر ، علمت أن السائق اضطر للمرور من هذا الطريق بسبب الحصار المضروب على القرية و أنه لا بد من سلوك طرق ترابية . مضت نحو نصف ساعة حتى نجحت السيارة في اجتياز التلة و عاد الركاب إلى مقاعدهم . و جدّت السيارة في السير في الطريق الترابي ، كانت أحيانا تعترضهن بعض الحفر فيضطر السائق إلى تهدئة السرعة ، كان يتمتم بغضب " لعنة الله عليهم ..حتى الطريق حرمونا منها " . كان السائق يردد بين الحين و الآخر أنه يقضي يومه بالكامل في سفرة واحدة بسبب هذه الحواجز اللعينة ، فجأة برزت دورية لجيش الاحتلال من بعيد و صرخ جندي عبر مكبر الصوت " توقف و إلا أطلقنا النار عليك " كان يتكلم بلكنة عربية مكسرة ، أم أشرف وضعت يدها على صدرها و أخذت تتمتم بآية الكرسي و المعوذتين فيما أصيب الركاب بالهلع ...اضطر السائق للوقوف ، و نادى عليه الجندي " الكل ينزل من السيارة , ارفعوا أيديكم عاليا " نزل الركاب ووجدت أم أشرف نفسها ترفع يديها مثل باقي الرجال الآخرين . نزل ثلاثة جنود من الجيب العسكري و هم يصوبون أسلحتهم ، أحد الجنود صرخ عليهم " لماذا أتيتم هنا ؟" أحد الركاب كان يتقن اللغة العبرية قال : نحن متجهون إلى رام الله , معنا أناس مرضى يريدون العلاج " فرد الجندي عليه و قال له ممنوع المرور , في إغلاق ..في حصار" .الراكب عاد و قال "لكن ليس لنا خيار إلا بالذهاب إلى رام الله , لا توجد أدوية في القرية " .رد الجندي عليه " هذا مش شغلي " .طلب منهم الجندي أن يكشف كل واحد عن بطنه لمعرفة ما إذا كانوا يخبئون متفجرات أو أحزمة ناسفة . أذعنوا للأمر و رفعوا قمصانهم . أم أشرف وقفت صامتة , فتقدم منها الجندي و قال بلغته المكسرة " معك سلاح ؟" , قالت " لا " . طلب منهم الجندي أن يعودوا من حيث أتوا , اعترض أحد الركاب و قال يجب أن تسمحوا لنا بالمرور , أنا مريض و لا أستطيع أن أتحمل العودة إلى القرية بدون دواء ".على ما يبدو كان الراكب يعاني من مرض في القلب . علمت أم أشرف فيما بعد أنه كان في طريقه لعمل تخطيط للقلب . الجندي رد عليه بفظاظة و هو يشير ببندقيته " تموت أحسن " , فتدخلت أم أشرف و قالت له " حرام عليك , الرجل مريض و يحتاج إلى العلاج " لكن الجندي لم يأبه لها و كرر عليهم الأمر " عودوا و إلا أطلقت عليكم النار "... أذعن الركاب و عادوا إلى السيارة , السائق أخبرهم بأنه سيحاول المرور من طريق فرعي آخر . الركاب ترددوا في الرد لأنهم خافوا أن تتكرر تجربتهم و آثروا الصمت . انطلق السائق و قد مضى على خروج أم أشرف من منزلها نحو ثلاث ساعات .كانت الطريق الجديدة التي سلكوها أكثر وعورة إذ أنها تخترق الجبال التي تحيط برام الله و كانوا بين الحين و الآخر يرون سيارة ركاب فلسطينية وقد غاصت في الطين و الركاب يدفعونا بكل قوة .مضت نحو نصف ساعة طمأن السائق بعدها الركاب أنهم على وشك الاقتراب من الحاجز الأخير الذي يفصلهم عن المدينة ," لا بد من اجتيازه ,ليست هناك طرق بديلة " قال السائق .و عندما وصلوا إلى الحاجز تبادل الركاب التهاني بسلامة الوصول إلى الحاجز , لم يتبق إلا المرور من هذه الأمتار المعدودة للوصول إلى قلب المدينة . نظرت أم أشرف فرأت أمامها منظراً لم تكن تألفه من قبل : مئات السيارات و قد تراصت و تلاصقت بشكل عشوائي ,و كأنما تتزاحم للاقتراب من الحاجز , أما البشر فيعدون أيضا بالمئات , بعضهم آثر أن يظل في السيارة بانتظار العبور , البعض الأخر فضل أن يعبر على قدميه لأن تزاحم السيارات سيخلق أزمة كبيرة في المرور . " لم أعرف كيف سأمرّ من هذا البحر الكبير من الناس , اعتقدت أنني لن أجتاز الحاجز إلا بعد عشر ساعات ",قالت أم أشرف .و اضطرت للوقوف في الدور ,كان المنظر محزناً و أليماً , أطفال يصرخون و أمهاتهم يحاولن تهدئتهم بدون جدوى . الجو كان شديد البرودة , و رام الله تصبح في الشتاء مدينة صقيع قارس . إحدى النساء أخبرت أم أشرف أنها تنتظر في الدور منذ أكثر من ساعة و الجنود لا يسمحون لأحد بالمرور . سألت أم أشرف " و هل سيظل الحاجز مغلقا ؟ فردت عليها المرأة " بحسب مزاج الجندي , يمكن أن ننتظر هنا ساعة أو ساعتين و ربما ست ساعات " ,خفق قلب أم أشرف و أحست أنها وقعت في ورطة كبيرة , " لم أكن أعرف كيف سأتصرف إذا طال بي المقام , و لم أكن أعرف أحدا بالمدينة إذا قدر لي دخولها و اضطررت للمبيت "و فكرت أم أشرف أن تعود من حيث أتت , لكن صورة الآلام التي صاحبتها طوال السنة الماضية دفعتها لإعادة التفكير و التصميم على الوصول . بدأ الطابور يزحف شيئا فشيئا بعد أن سمح الجندي بالعبور ,كان كل شخص يتقدم من الحاجز يرفع يديه و يخضع للتفتيش و يستجوبه الجندي عن سبب قدومه إلى رام الله .نظرت أم أشرف إلى ساعتها فوجدت أنه مضى على خروجها من البيت أكثر من ست ساعات , بدأت تشعر بالألم يتخلل في مفاصلها بعد أن اشتدت حدة البرد و بعد أن بدأ المطر يتساقط .و بدأت الناس تنظر ذات اليمين و ذات الشمال تبحث عن ملجأ من المطر الذي بدأ يهطل بشدة .كان أكثر ما يؤلم أم أشرف الأطفال الصغار المحمولون في أحضان أمهاتهم ,"لم يكن هناك ما يدل على بشاعة الاحتلال و قسوته من هذا المنظر " قالت أم أشرف . أردفت: " لقد رأيت إحدى النساء و هي تحمل طفلها و تتقدم من الجندي على الحاجز تتوسل إليه أن يسمح لها بالمرور لأن طفلها أخذ في الصراخ و ليس من شيء يسكته ,فما كان من الجندي إلا أن نهرها ثم رفسها بقدمه آمراً إياها بالعودة إلى الطابور . جمهور المواطنين لم يكن ليستطيع أن يفعل شيئاً وهو يرى الحاجز و هو محاط بثلاث دبابات قد أشرعت مدافعها تجاه كتل البشر المتزاحمة , الكل يبرز ما لديه حتى يسمحوا له بالمرور : شهادة طبية ,شهادة وظيفة حكومية ,تحويلة للعلاج ..غير أن جنود الاحتلال ينظرون إليها في أغلب الأحيان على أنها مزيفة . وصلت أم أشرف أخيراً وقفت أمام الجندي وقد غطى جميع بدنه بالسترة الواقية من الرصاص ووضع على رأسه خوذة حديدية فيما كانت بندقية آلية معلقة على كتفه ," وين رايحة ؟" سألها بلغة عربية ركيكة ," إلى الطبيب للعلاج " ردت عليه أم أشرف .قال في عندكم دكتور في القرية , روحي تعالجي عنده " رد الجندي .أدركت أم أشرف أنها أمام جندي عنيد لا يريد أن يتزحزح عن موقفه , قالت له " إنني امرأة كبيرة و مريضة و أريد أن أعالج عند الطبيب , لدي أوراق طبية " , فرد عليها الجندي " كلكم كذابون , تقولون إنكم مرضى حتى تدخلوا رام الله " . لم تعرف أم أشرف كيف تقنعه , غير أنها أحست بدماء التحدي و الإصرار تتدفق في شرايينها , نظرت إليه بحدة و قالت له " لا بد أن تسمح لي بالدخول , أنا لا أستطيع الانتظار في البرد أكثر من ذلك ", استغرب الجندي من لهجة التحدي و رفع فوهة بندقيته وصوبها نحو جبهتها و قال " روحي البيت ..و إلا وضعت رصاصة في رأٍسك " . " لا أدري في هذه اللحظة هانت عندي صورة الموت .. مر بي شريط الشهداء المحمولين على الأعناق و صور الجرحى ..و رأيت كم هم متوحشون " تقول أم أشرف ، و عادت تقول للجندي " أتفضل اضرب رصاصة أنا جاهزة ", سحب الجندي " الأقسام " ووضع يده على الزناد ,ندت شهقة من الجمهور الذي كان يتفرج على الموقف , أدركوا أن أم اشرف ستتمرغ عما قليل في دمها . " حينها شعرت بالخوف و أيقنت أنه سيرديني برصاصة ..ليس أسهل على جنود الاحتلال من إزهاق أرواح الناس " تقول أم أشرف . غير أن دماء التحدي التي كانت تتفجر في شرايينها و تتدفق بسرعة تدفعها لأن تتحرك بحركات لا إرادية , مدت يدها و أمسكت بماسورة البندقية ووضعتها في منتصف جبهتها وقالت بصوت حاد " إذا كنت راجل أطلق النار " . بهت الجندي الذي صعق من جسارة أم أشرف و من مئات العيون التي أخذت تحملق فيه . عندها حدثت جلبة كبيرة تدخل على إثرها ضابط كان يجلس في إحدى أبراج المراقبة , و سأل ماذا حدث " فقالت إنه يريد أن يعيدني و لا يسمح لي بالمرور بدون سبب " فسألها عن وجهتها فأخبرته ,فأشار للجندي " دعها تمر ".خفض الجندي بندقيته و سمح لأم أشرف بالمرور , مرت و شعرت بنشوة الانتصار و هي تجتاز الحاجز الحجري المدجج بالجنود و السلاح ,"لأول مرة في حياتي أشعر بهذا الشعور الغريب ..لم يكن أمامي إلا أن أفعل ذلك , الحياة لنا لم تعد ذات أهمية إذا أرادوا حقنها بالذل و الهوان ". قضت أم أشرف مهمتها , عادت بعد نحو ساعتين وكان الوضع على الحاجز كما هو : زحام بشر و سيارات و أثر التعب على وجوه الناس , شعرت أن تجربتها يمكن أن تتكرر لكنها قررت أن تصطف في الطابور لحين وصول دورها , وظلت على هذا الحال حتى مغيب الشمس , وعادت إلى البيت منهكة متعبة . " كانت هذه تجربتي الأولى مع الحواجز و صدامي الأول مع جنود الاحتلال .." لحظة إمساكها بماسورة البندقية لم تفارقها للحظة , و حين تقص القصة على جاراتها يستغربن من جرأتها و هي نفسها لا تعرف كيف أقدمت على ذلك " ربما إلهام من الله ,و ربما الهم و الألم المختزن في داخلنا منذ عشرات السنين " تقول أم أشرف. منقول |